الخميس، 21 فبراير 2013

عبق من تاريخ عجلون - سلطان الزغول

ظلت عجلون حضنا دافئا للمجد والشموخ عبر التاريخ، وفي هذه المقالة أودّ أن أقدم خلاصة جولة قمت بها عبر كتب التاريخ المتعلقة بهذه الأم الجبلية المحلقة أبدا في ذرى السموّ، وقد أدهشتني بعض المعلومات التي عرفتتها لأول مرة، ويسعدني التعرف على أي إضافة توضّح الصورة أو تجلوها أو تعمّقها.
أولا: حول السكان والتعايش الاجتماعي
يؤكد عليان الجالودي ومحمد عدنان البخيت في كتابهما "عجلون في عصر التنظيمات العثمانية" أن عدد القرى في قضاء عجلون أواخر العهد العثماني قارب 126 قرية، وقد رافق هذه الزيادة في عدد القرى كثافة في الاستيطان، حيث ارتفع عدد سكان القضاء من 20ألفا أواخر سبعينيات القرن التاسع عشر إلى 62 ألفا عام 1914. ويقارن الباحثان هذا العدد بعدد سكان أقضية لواء حوران الأخرى جميعها باستثناء عجلون فيجدان أنه لم يتجاوز 12 ألفا في حين أن عدد سكان أقضية لواء الكرك: السلط، والطفيلة، ومعان والكرك بلغ 74 ألفا. ويرجع الباحثان ازدياد عدد السكان في قضاء عجلون في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين إلى خصوبة الأرض والطبيعة المنيعة التي شكلت ملاذا للفلاحين المستقرين ضد اعتداءات البدو.
أما المستشرق (أوليفانت) في كتاب "أرض جلعاد" فيقول: ضمت بلدة عجلون عام 1879 أكبر تجمع سكان إلى الشرق من نهر الأردن وقدر عدد سكانها بخمسمائة نسمة، ثلاثة أرباعهم من المسيحيين والربع الأخير مسلمون. ويؤكد الرحالة الذين مروا بقضاء عجلون على العلاقة الودية بين المسلمين والمسيحيين، حتى أنه لا يمكن التمييز بين أصحاب الديانتين لأن مظهرهم وملبسهم وعاداتهم متشابهة ، ويشير أوليفانت في كتابه "أرض جلعاد" -وهو كتاب مهم بحاجة إلى أن يترجم إلى اللغة العربية- يشير إلى أن المسلمين يحترمون الأقلية المسيحية ويحافظون على حقوقها، ولم تترك الصراعات الطائفية في المناطق المجاورة أي صدى في القضاء، ويرجع الباحث نعمان قساطلي في دراسة له بعنوان "سوريا" أسباب ذلك إلى بعد المنطقة عن الدسائس الاستعمارية وإلى اندماج المسيحيين اجتماعياً واقتصادياً مع المسلمين، كما كان للمسيحيين حقوقهم في الإدارة وإقامة شعائرهم الدينية وبناء كنائسهم. وقد أنشئت في عنجرة عام 1888م مدرسة الروم الأرثوذكس، كما أنشئت مدرسة للأرثوذكس في عجلون في العام نفسه. أما اللاتين فأنشؤوا في عجلون مدرستهم عام 1889، وبعدها بعام واحد أنشأ اللاتين مدرسة أخرى في عنجرة.
ثانياً: عجلون هي الأردن
تفيد "السالنامات العثمانية" المتوفرة في مركز الوثائق والمخطوطات التابع للجامعة الأردنية أن عجلون كان لواء يتبع ولاية الشام، ويضم جميع أجزاء شرقي الأردن بمفهومه السياسي الحالي: عجلون، أربد وتوابعها، البلقاء، الكرك. واستمرت هذه الحال حتى عام (1861م) حيث طرأ تغيّر إداري مهم فأدمج عجلون مع لواء حوران، وأصبح هذا اللواء الجديد يضمّ جبل دروز حوران، والقنيطرة، وعجلون مع توابع إربد، والبلقاء، والكرك. لكن لواء عجلون فقد أهميته كلواء مستقل بذاته عام 1864م وتحول إلى قضاء تابع للواء حوران، أما البلقاء والكرك فاستمرتا تتبعان إدارياً إلى قضاء عجلون حتى عام 1866م ولم يتشكل لواء البلقاء الذي ضمّ نابلس والكرك والطفيلة والسلط مع الأغوار إلى عام 1868. وقد استمرت تبعية قضاء عجلون الإدارية للواء حوران طوال الفترة ما بين سنتي1864-1918. ويؤكد الدكتور يوسف غوانمة أستاذ التاريخ في جامعة اليرموك أن عجلون كانت تمتد من وادي الزرقاء جنوباً إلى وادي اليرموك شمالاً، ومن وادي الأردن غرباً إلى منطقة البربة (خلف جرش) شرقاً. وقد ازدادت أهمية عجلون في العصر الأيوبي، فعهد صلاح الدين إلى قائده عز الدين أسامة بناء قلعتها في قمة جبل عوف عام 1184م في مكان استراتيجي، وذلك لمنع توسع الفرنجة من الغرب. ويضيف غوانمة: وفِّق صلاح الدين في اختيار موقع يسيطر على جبال عجلون وعلى المنطقة الممتدة من طبريا إلى البحر الميت. والقلعة يمكن مشاهدتها من جبال نابلس والقدس.
كما يشير غوانمة إلى أن وجود مدينة عجلون في منطقة خصبة وكثافة سكانية عالية، إضافة لوقوعها على شبكة مواصلات تربطها بالأغوار وفلسطين والبلقاء وإربد ودمشق أعطاها مزايا اقتصادية، فعرفت بنشاطها الاقتصادي والتجاري وتشعب الأسواق وكثرتها، بل كان لها علاقات تجارية مع المناطق المجاورة، بل ومع الدول الأوروبية، ويدل على ذلك وجود (دار الطعم) في عجلون، وهي وكالة للتجار الأجانب.
ثالثاً: بصمات التاريخ في ربوع عجلون
بنى الصالح نجم الدين أيوب سنة 645ه (1247م) مسجد عجلون الحالي وهو أحد مسجدين بنيا في عجلون ذلك العهد، لكن المسجد الثاني لم يبق له من أثر. وقد اهتم الظاهر بيبرس بمدينة عجلون فبنى منارة للمسجد سنة 1263م. ويقع مسجد عجلون في منتصف المدينة، وهو من أقدم المساجد الباقية في الأردن. ويوجد في قلب بلدة كفرنجة مسجد جامع قديم البناء يقوم على أسس أيوبية ومملوكية. أما قرب مسجد عجلون الأيوبي فيقع خانقاه سيد بدر، ومن المعروف أن الأيوبيين ومن بعدهم المماليك قد اهتموا ببيوت المتصوفة، ومنها هذا الخانقاه الواقع في قلب عجلون التي اشتهر فيها عدد من المتصوفة الذين أقاموا في سيد بدر، ومنهم محمد بن علي بن جعفر الشمس العجلوني المعروف بالبلالي، الذي ولد بعجلون ورحل إلى دمشق والقاهرة حيث تولى مشيخة سعيد السعداء هناك، وقد صنف البلالي عدداً من الكتب قبل أن يتوفى في القاهرة سنة 820هـ (1417م) ومن رجالات الصوفية العجلونيين الزاهد العابد عمر بن حاتم العجلوني الذي زار الخليل وحلب، ثم جاور في مكة المكرمة قبل أن يخرج إلى المدينة، ولكنه مرض في الطريق وتوفي ببدر سنة (845هـ). ويدل إقامة هذه الخانقاه في عجلون على أهميتها في عصر الأيوبيين والمماليك، فهي كما يؤكد الدكتور يوسف غوانمة من المدن الهامة التي تمتلك شهرة تجارية واقتصادية، إضافة إلى أهميتها الإستراتيجية التي دفعت صلاح الدين إلى بناء القلعة فيها، إضافة إلى ظهور عدد كبير من العماء والفقهاء والشعراء فيها، والذين كانوا على اتصال بعلماء دمشق وبيت المقدس. ويذكر غوانمة في كتابه "الحياة العلمية والثقافية في الأردن في العصر الإسلامي" عدداً معتبراً من علماء وشعراء عجلون الذين يقدم تراجم لهم ومنهم عمر بن محمد بن عمر المعري العجلوني الفقيه الذي ولد بعجلون وتوفي بمعرة النعمان، والشاعر الأديب محمود بن طي العجلوني الذي كان شاعر رقيقاً في عهد المماليك، وفضل بن عيسى بن قنديل العجلوني الحنبلي العالم الجليل. ومن علماء عجلون الذين يذكر غوانمة منهم ثلاثة وثمانين عالماً وأديباً رحلوا إلى دمشق والقاهرة والقدس واشتهروا فيها عزالدين بن عبد السلام بن داود العجلوني، وبرهان الدين إبراهيم الباعوني، وعائشة بنت يوسف بن أحمد الباعونية أما الدكتور قاسم المومني وفخري كتاني فيذكران في كتابهما "شعراء عاشوا في قلعة عجلون" حوالي اثني عشر شاعراً في القرنين السابع والثامن الهجريين منهم يحيى بن خضير، ومحمد بن سليمان، وسعد الدين بن المبارز، ما يؤكد على الحياة الثقافية العامرة والفنية في عجلون، وازدهارها ذلك العصر.
ومن الخرائب التي تحوي آثاراً دارسة تحتاج إلى التنقيب والتأكد من معالمها وتاريخها:
* مسجد عصيم الأثري الذي لم يبق منه إلا المحراب والباب الغربي وبعض القناطر التي تشير إلى ملامح أموية.
* مقبرة تاريخية شرقي بلدة راسون.
* آثار يونانية وإسلامية جنوب بلدة راجب.
* آثار يونانية ورومانية وبقايا مساجد أثرية قديمة، ربما كانت أيوبية، جنوب عنجرة في مناطق: سرابيس، والحنيش، والحزار، وخربة السوق والفاخرة.
* آثار إسلامية في المنطقة الشمالية والغربية من جبال عجلون: لستب وحلاوة والهاشمية ودير الصمادية وصخرة والطيارة وباعون.
ومن الجدير ذكره أن بعض المصادر قد ذكرت أن النبي إلياس قد ولد في منطقة لستب الواقعة شمال غرب مدينة عجلون، وفي تلك المناطق تقع مار إلياس الشاهدة بقايا آثارها على وجود تاريخي لا يُعرف كنهه على وجه الدقة.
رابعاً: مؤرخون ورحالة ذكروا عجلون
يقول الدكتور يوسف غوانمة في كتابه "التاريخ السياسي لشرق الأردن": كانت عجلون في عهد دولة المماليك الأولى من أهم الدروب الاقتصادية بل هي الممر الوحيد الذي تسلكه قوافل التجارة بين العراق ودمشق والقاهرة. ولعل ذلك راجع لتعذر دخول البدو إليها ومهاجمة القوافل التجارية. ويقول الدكتور الغوانمة في الكتاب نفسه إن عجلون كانت المصدر الثالث من مصادر أرزاق العساكر الإسلامية بعد دمشق ولبنان في عهد الأيوبيين والمماليك.
وقد ذكرت بعض المصادر أن القافلة التي اشترت النبي يوسف قد مرّت بعجلون التي كانت تشتهر قديماً بنبات البيلسان، وهو المادة الرئيسية التي استخدمها المصريون القدماء في تحنيط موتاهم، حتى أن اسم النبات بالانجليزية هو "BALM OF GILEAD " أي بلسم جلعاد.
ذكر المستشرق لانكستر هاردينغ أن عجلون تشتهر بالحديد الذي كان الأيوبيون يستخرجونه من مغارة " وردة" قرب راجب، ويصنعون منه السيوف في داخل القلعة بعد صهره واستبعاد الرواسب منه في فرن الصهر قرب القلعة، في الجانب الغربي منها. أما الرحالة سيلاه ميرل فيصف عام 1877 عجلون بأنها ذات واد جميل واسع كثير الينابيع، موكداً أن منظر الوادي عند قرية عين جنة يجعلة من أجمل الأودية في سورية كلها، ويضيف: توجد ثلاث قرى مزدهرة هي عجلون وعنجرة وكفرنجة ، وتكثر الخرائب الأثرية في هذا الوادي ، ما يدل على أن هذه الجهة كانت حافلة بالقرى أو المدن في العصور القديمة ، وتكثر الطواحين في الوادي. أما "جراي هل" فيقول عن زيارته الأردن عام 1888م: اتجهنا من جرش نحو جبل عجلون فمررنا بأرض أجمل من أي أرض مررنا بها من قبل.
وقد جاء في وصف عجلون وقلعتها عند الشيخ شمس الدين الدمشقي في كتاب
"نخبة الدهر في عجائب البر والبحر": "وفيها حصن حسن حصين، وفيه مياه جارية وفواكه كثيرة وأرزاق غزيرة، وهو مشرف يُرى من مسيرة أربعة أيام". وعجلون ذات طبيعة ساحرة ما زالت على مدى العصور شاهدة على تميّز المكان، تكسوها الغابات، ويكثر فيها شجر البلوط كما تكثر فيها الينابيع. ولا يمكن الإحاطة بأقوال الرحالة والمؤرخين الذين مروا بعجلون في هذه العجالة ومنهم ابن بطوطة وغيره من الرحالة المسلمين والأجانب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق