الثلاثاء، 29 نوفمبر 2011

الاستعراب الإسباني.. الحنين للتعايش والبناء الكاتب : محمد محمود البشتاوي - الأردن


رغم أن مفردة (مستعرب) قديمة في المعجم اللغوي العربي، ومنها مشتقات موازية في المعنى كاستعراب، والتي أطلقت أيضاً تعريفاً للشعوب العجمية التي نطقت باللغة العربية، وأجادتها؛ فإن قصة الاستعراب تشكلت نتيجة التعايش بين العرب والأمم الأخرى، في ظل الحكم الإسلامي الذي مثل الحاضنة لمختلف المكونات، خلال حقب تاريخية ماضية، الأمر الذي أصبح اصطلاحاً، ومدرسةً، وعلماً، في تقصي، ودراسة اللغة العربية، وعلومها، بل أصبح منهجاً لدى فئة من الدارسين الغرب ممن يؤمن بالتعايش، وحوار الحضارات، فقيل (استعراب) إسباني، روسي، أوروبي.. إلخ.
وفي هذا الصدد، يقول الدكتور محمود علي مكي إن إسبانيا والبرتغال شهدتا أطول وجود عربي إسلامي على أراضيهما، بما يعنيه ذلك من تأثير هائل على المستويات السياسية والاجتماعية والثقافية، إلا أن الدراسات العربية بدأت في إسبانيا متأخرة كثيراً عن مثيلاتها في سائر الدول الأوروبية، وربما يعود تأخرها إلى الصراع الذي نشأ نهاية دولة الأندلس، والتداعيات التي توالت فيما بعد كمحاكم التفتيش، وطرد العرب القاطنين فيها (الموريسكيين) إلى شمال أفريقيا.
وفي دراسة له يقول الدكتور هادي نهر –أستاذ أكاديمي من الأردن–: إن الاستشراق غير (الاستعراب)، مؤكداً أن الأخير فرع من الأول، ويعني تخصص بعض الباحثين غير العرب (غربيين، أو آسيويين في دراسة القضايا العربية دون سواها)، ويشير في دراسته إلى أن (الاستعراب) قد ظهر إبان ازدهار الحضارة العربية في الأندلس، وبالتحديد في الفترة من (1100 - 1500) مما عرف بعصر الاستعراب الأوروبي؛ حيث أقبل كثير من الأوروبيين على تعلم اللغة العربية وآدابها، والولع بكل ما هو عربي لا سيما قراءة الشعر العربي والاهتمام به وبأعلامه دراسة وتحقيقاً، ونذكر هنا بالإيطالي (أمبيرتو ريزيتانو) أستاذ اللغة والأدب العربي في جامعة باليرمو، والإسباني (إميليو غارسيا غومث) المراسل في مجامع اللغة العربية في القاهرة وبغداد ودمشق، والألماني (فيشر) وغيرهم.
فرادة وخصوصية لا تتكرر
يبدأ الشاعر والباحث سلطان الزغول حديثه لـ(المجلة العربية) بضرورة التفريق بين (الاستشراق) و(الاستعراب)، ويرى أن الاستعراب الإسباني يتطلع إلى الشرق بوصفه عالما مجهولاً أو غامضاً، على أساس أن أبرز مكونات الشخصية الإسبانية التي ظلت مرجعياتها الحضارية عربية إسلامية حتى القرن الخامس عشر. وقد شكل ماضي إسبانيا بوجهها العربي عقدة عند المسيحية الإسبانية طوال قرون، لكن ما فتح عيون الإسبان على حقيقة الشرخ الكبير في تاريخهم الحضاري هو رؤية أوروبا تنهض من سباتها الطويل لتبدأ في صياغة حضارة متقدمة، فما كان من بعض أكاديمييهم المتنورين إلا أن أعادوا النظر بتاريخهم الذي قام طوال قرون على نفي التأثير الحضاري للمسلمين، والادعاء أن وجود العرب في بلادهم لم يكن إلا مرحلة انقضت ويجب نسيانها، بل حذفها تماماً من الذاكرة الجمعية للإسبان حتى تستقيم الشخصية الإسبانية اللاتينية. فقام أميركو كاسترو في القرن التاسع عشر بمواجهة الإسبان بحقيقة تكوينهم الحضاري القائم على التفاعل، كما شرعت طائفة من المفكرين الإسبان المتحررين تعيد النظر في تاريخ إسبانيا على نحو أكثر إنصافاً.
ويتابع الزغول إن (مونتابس) يرى ضرورة أن يطلق على (الاستشراق الإسباني) تسمية (الاستعراب)، وهو يشير بذلك إلى أن الحضارة العربية الإسلامية تشكل جزءاً أساسياً من تاريخ وحضارة إسبانيا والبرتغال، إن لم تكن الجزء الأهم، فحتى القرن الخامس عشر كانت الحضارة العربية الإسلامية المكون الأساس في صياغة تراث وتاريخ شبه الجزيرة الإيبيرية. 
ويتابع صاحب ديوان (في تشييع صديقي.. الموت): «لقد ظهر اتجاهان أساسيان في الدراسات الإسبانية منذ منتصف القرن الثامن عشر؛ الأول يرى أن الحضارة الإسبانية حضارة مسيحية لاتينية، وقد ظلت علاقاتها مع المسلمين في الجنوب علاقات عداء وتناحر انتهت بطرد المسلمين والعودة إلى سياق الحضارة المسيحية. أما الثاني فينظر إلى هذه الحضارة من جهة تفاعل العناصر التي صاغتها، كما أنه لا يعطي قيمة كبيرة لماضي إسبانيا القوطي قبل دخول المسلمين». ويختم حديثه مؤكداً على أن مساهمة العرب والمسلمين في ماضي إسبانيا شكلت إشكالية عند الإسبان، ورغم ذلك يبقى هذا الماضي متمتعاً بخصوصية وفرادة لا تتكرر، حيث التقى الشرق والغرب في نقطة تفاعلت فيها البشرية دون نظر بعضهم إلى التوجهات السياسية أو الدينية للآخر، ودون إلقاء بال للون أو الجنس أو العرق. ما دفع إلى نشوء حضارة عريقة تبقى مثالاً على الرقي والتسامح والسمو.
تطور مفهوم الاستعراب
يشير الدكتور أحمد نوفل –أستاذ أكاديمي في الجامعة الأردنية– إلى أن هناك فريقاً من الدارسين الإسبان الذين يحبذون أن يتسموا بـ(الاستشراق)، ولا يحبذون الاسم الدارج المشتهر لأمثالهم من الدارسين، وهو اسم (المستشرقين)، مستشهداً في هذا الصدد، بما جاء لدى الأستاذ محمد عبد الرحمن القاضي في كتابه عن (ميغيل آسين بلاثيوس) رائد الاستعراب الإسباني المعاصر، إذ قال: «يرفض الكثير من الإسبان المهتمين بالدراسات العربية والإسلامية نعتهم بالمستشرقين. ويفضلون بدلها الاستعراب والمستعربين (Arabistas)؛ نظراً لأنهم كلهم نذروا أنفسهم وحياتهم لدراسة اللغة العربية وآدابها وحضارة المسلمين وعلومهم في شبه الجزيرة الإيبيرية بصفة خاصة، دون أن يهتموا بلغات شرقية أخرى كالفارسية والتركية والأوردية وغيرها. ويلح المستعرب (بيدرو مارتينث) على استعمال كلمة (الاستعراب) Arabista  لأن الدراسات التي بدأت في إسبانيا وازدهرت منذ وقت طويل كانت الدراسات العربية».
ويتابع الباحث والكاتب الأردني حديثه قائلاً: «من هنا يجب التمييز بين المستعربين والمستشرقين في إسبانيا، فالمستعربون هم الذين يهتمون بالدراسات العربية الإسلامية وبخاصة الأندلسية منها، والمستشرقون هم من يهتمون بقضايا الشرق على العموم وبخاصة قضايا الشرق الأقصى، ويشير إلى أن هذه الكلمة أطلقت في الأندلس على العناصر المسيحية التي استعربت في لغتها وعاداتها، ولكنها بقيت على دينها محتفظة ببعض تراثها اللغوي والحضاري، وقد حفظت لهم الدولة الإسلامية حرية العقيدة».
ويرى نوفل أنه مع مرور الزمن تطور مفهوم (الاستعراب)، وأصبح ذا طابع علمي يختص بدراسة حياة العرب وما يتعلق بهم من حضارة وآداب ولغة وتاريخ وفلسفات وأديان، وله أصوله وفروعه، ومدارسه وخصائصه وأتباعه ومنهجه وفلسفته وتاريخه وأهدافه، والمستعرب عالم ثقة في كل ما يتصل بالعرب، وهو من تبحر من غير العرب في اللغة العربية وآدابها وتثقف بثقافتها وعني بدارستها، ولقد أدى وأسدى الاستعراب الإسباني خدمات جليلة لا تقدر بثمن إلى الثقافة العربية والإسلامية والحضارة العربية الأندلسية بصفة خاصة. وذلك بفضل الاتصال الذي عرفته إسبانيا أيام الوجود العربي الإسلامي في شبه الجزيرة الإيبيرية لمدة ثمانية قرون، كانت فيها اللغة العربية لغة علم وحضارة، انطلاقاً من السلطان السياسي المستقل الذي مهد لهذا السلطان الحضاري الشامل الذي جعل من إسبانيا أمة أوروبية ذات خصائص متميزة.
ويستشهد نوفل بما قاله المستعرب الإسباني (بيدرو مارتينيث): «إن إسبانيا ما كان لها أن تدخل التاريخ الحضاري لولا القرون الثمانية التي عاشتها في ظل الإسلام وحضارته، وكانت بذلك باعثة النور والثقافة إلى الأقطار الأوروبية المجاورة المتخبطة آنذاك في ظلمة الجهل والأمية والتخلف».
استرجاع حالة التعايش
الباحث والكاتب عيسى الأحمد يرى أن (الاستعراب الإسباني) يعيد قراءة التاريخ بعيون عربية، أو هي عملية استرجاع للحظات من التعايش الحضاري بين العرب  والمسلمين في الأندلس، والإسبان. مشدداً على وجود منظومة إسلامية متسامحة مع الآخر –المسيحي واليهودي– دفع «المجتمع بمختلف مكوناته للانتقال من الاختلاف إلى الائتلاف»، فكان من الطبيعي، حتى بعد سقوط الأندلس وقيام عمليات من التطهير العرقي ضد العرب والمسلمين، أن «يستمر تيار إسباني منجذب لماضيه، ومتعايش مع فكرة التصالح، والتآلف مع الآخر، ما أنتج (الاستعراب) الذي وجدت له جذور أيضاً في حضارات غربية احتكت مع المسلمين وحضارتهم كروسيا، إلا أن لإسبانيا وقعاً مختلفاً لأنها عاشت لعقود في ظل الحكم الإسلامي».
ويتابع الأحمد نقلاً عن دراسة للأستاذ محمد القاضي بعنوان (أثر الإسلام واللغة العربية في الحياة الإسبانية) أن الإسبان أخذوا «عادة تغسيل الموتى عن المسلمين، وعادة تغطية وجوه النساء كانت تمارس حتى وقت قريب في بعض مناطق (ألمرية) و(قادس).. ومن سالف العادات أيضاً كان جلوس النساء على الأرض؛ وقد سادت هذه العادة في إسبانيا خلال القرن الثامن عشر».
ويختم حديثه لـ(المجلة العربية) بما يؤكد على أن ثيمة التعايش كانت العنصر الفاعل في التأسيس للاستعراب، ولاحقاً لتقبل فكرة التعايش بين الثقافات، وتلاقحها، ويستند فيما ذهب إليه بما قاله المستعرب الإسباني خواكين بوستامانتي كوستا الذي أكد قائلاً: «إننا ندرك أن وصول الإسلام إلى أوروبا قد أحدث تغييراً كبيراً، تبدو مظاهر ذلك بشكل جلي من خلال المنظور التاريخي؛ فحتى ذلك الوقت كانت الديانات المهيمنة هي اليهودية والمسيحية، ولعل ظهور دين ثالث أضاف عناصر التعايش مع الديانات السابقة، كان شيئاً مجهولاً حتى هذه اللحظة»، مشيراً إلى أن ما حمله التسامح الإسلامي باتجاه تشكيل روح أكثر ليبرالية وأكثر عالمية، «ساهمت في إخراج أوروبا من انغلاق ذهني وجهالة متشددة».

الاثنين، 14 نوفمبر 2011

استخلاصات إسرائيلية: زوال دولة الكيان الصهيوني/ د. اسعد عبد الرحمن

ما يميز أصالة الدول هو وجود الشعب المتمسك بالأرض والذي لا يفكر بالخروج منها مهما تعاظمت المصائب عليه حتى لو تغير نظام الحكم، سواء أكان ديموقراطيا أو ديكتاتوريا.
يعتبر المحامي اليهودي الأميركي (فرانكلين لام) المختص بالقانون الدولي من أشهر الكتاب والناشطين الذين تنبأوا في كتاباتهم العديدة بقرب زوال إسرائيل. وقد دلل (لام) على ذلك بحقيقة التقارير الرسمية الإسرائيلية التي بينت أن أكثر من نصف اليهود المقيمين في فلسطين التاريخية يودون مغادرة إسرائيل في السنوات القليلة القادمة خاصة إذا استمرت الأوضاع السياسية والاجتماعية على حالها. وبشأن هذه الظاهرة، يؤكد (لام): «إن الحلم الصهيوني الذي قام في القرن التاسع عشر لأجل استعمار فلسطين لتكون ملجأ آمنا ليهود أوروبا، أصبح حلما فاشلا في القرن الواحد والعشرين. فقد أصبحت أوروبا والولايات المتحدة الأميركية الملجأ الآمن بنظر الأكثرية من المحتلين اليهود للأراضي الفلسطينية والذين باتوا يودون الهجرة منها (إلى الغرب)». أما الكاتب الإسرائيلي (جدعون ليفي) فقد كتب في صحيفة «هآرتس»: «إذا كان آباؤنا حلموا في الحصول على جواز سفر إسرائيلي للفرار من أوروبا، يوجد الآن بيننا الكثيرون الذين يحلمون بالحصول على جواز سفر ثان يفرون به إلى أوروبا».
ضمن الدراسات المتكاثرة التي أعدتها معاهد ومؤسسات يهودية وأخرى أميركية بهذا الشأن، أكدت دراسة مشتركة للجنة العلاقات العامة الأميركية الإسرائيلية («إيباك» - اللوبي اليهودي الصهيوني المتطرف والأبرز في الولايات المتحدة) بالتعاون مع «صندوق الجالية اليهودي الوطني» في ألمانيا أنه: «إذا استمرت الحالة السياسية والاجتماعية في إسرائيل على حالها، فإن أكثر من نصف اليهود الإسرائيليين على استعداد تام لمغادرة إسرائيل». بالمقابل، أوضح «مركز مناحيم بيغن للتراث» في دراسة حديثة أن «أكثر من 70% من الإسرائيليين تقدموا أو سيتقدمون بطلبات إلى سفارات أجنبية في إسرائيل لأجل الحصول على جنسية أخرى وجواز سفر ثان». كما أكد باحثون في جامعة «بار إيلان» الإسرائيلية في دراسة لهم «إن أكثر من (100) ألف إسرائيلي يملكون جواز سفر ألماني وإن (7000) يتقدمون سنويا للحصول على مثل ذلك الجواز، وأكثر من نصف مليون إسرائيلي لديهم جواز سفر أميركي، وربع مليون ينتظرون جوازات سفرهم الأميركية بعد أن قدموا طلبات الحصول على الجنسية الأميركية في تل أبيب».
يستخلص (لام) بأن «ثلاثة أجيال إسرائيلية بالفعل لم تنبت جذورا عميقة في الأرض وما زالت فكرة الهجرة من الهجرة تراود خواطرهم». أما التوتر النفسي الذي أقنع الإسرائيليين بضرورة الحصول على جواز سفر ثان فمرده أسباب عديدة منها أن جواز السفر الأميركي أو الأوروبي هو «وثيقة تأمين لمواجهة الأيام العاصفة المرئية في الأفق». فأولا، «الربيع العربي»، حسب محللين إسرائيليين، قد يقضي على «مؤيدي وحماة إسرائيل في الشرق الأوسط». ويرى هؤلاء إنها «مسألة وقت فقط حتى يكون الربيع العربي حربة النضال ضد الغزاة المحتلين لفلسطين العربية. ثانيا، يضيف المحللون الإسرائيليون: «يتنامى الخوف من حرب أهلية قد يشعلها أو يتسبب بها المستوطنون المتطرفون الذين ينهبون الأرض الفلسطينية ويعيثون فيها فسادا، فضلا عن أن تحول إسرائيل إلى دولة فاشية أضعف من أنصارها في المجتمع الدولي، بل وسبب الذعر والاشمئزاز في نفوس كثير من يهود العالم الذين باتوا يتبرأون من إسرائيل... الدولة التي أبادت («القيم والأخلاق اليهودية العليا»)، بحسب بيان صادر عن جماعة «اليهود المحافظون المتحدون ضد الصهيونية». كذلك، فإنه من الأسباب الأخرى التي تدخل ضمن مخاوف الإسرائيليين على مستقبلهم وسعيهم للحصول على جواز سفر ثان، ما جاء في البيان الصادر عن هذه الجماعة: «عدم الثقة بالقيادات الإسرائيلية الفاسدة في معظمها والتي تقود «البلاد» عبر سياستها العنصرية إلى «محرقة ثانية» والتي جعلت إسرائيل أكثر دولة مكروهة في العالم».
(المصدر: جريدة الرأي)