السبت، 14 يوليو 2012

هكذا تكلم الحمار (الفلسفة الحمارية)


هكذا تكلّم الحمار
أو (الفلسفة الحمارية)

الفكرة والصياغة الأولى: مارتن سوليزير (طالب لغة عربية من ألمانيا)
تحرير وصياغة أدبية: سلطان الزغول


قبيل شروق الشّمس بعد ليلة طويلة مملوءة بأحلام قلقة وبأشباح الزّمان الماضي بحثت عن الهدوء والتّخفيف عن روحي المعذّبة على قمّة الجبل وراء بيتي. تسلّقت المنحدر وفتحت عينيّ على جمال الطّبيعة والألوان، وفتحت أذنيّ لأصوات الحيوان والرّيح، وفتحت أنفي لروائح الورود والأرض، حتى وصلت إلى القمّة وجلست هناك تحت شجرة، ووجهي إلى الشّرق، وانتظرت طلوع الشّمس حتى رحبت بي وداعبت وجهي بأشعّتها، وغنّت العصافير والحشرات ألحاناً ساحرة هدّأت قلبي الحزين.     
أخذني نعاس خفيف إلى أن أيقظتني قبلة من شفة رقيقة جعلتني أفتح عينيّ، لأرى بجانبي حماراً ناعماً ينظرني مليّاً بعينه البنّيّة الكبيرة. أما شعر أذنه فكان يتمايل أحيانا في نسيم الصّباح مع تشنّج جلده، فتتطاير عنه الحشرات، ليعود إليه الهدوء المغلّف بالصمت الحكيم. ما تحرّكت لكي لا يجفل، ووقفنا على هذه الحال وقتاً طويلاً.   
يا إنسان، استمع إليّ جيّدا. دعاني قلبك وسمعت أذناي شكواه ونظرت عيناي جرحه وشعر قلبي بألمه. فقرّرت أن أهدّئ روحك. افتح أذنيك إذن واسمح أن تلمس كلماتي فؤادك.
وهمس النّسيم معه: أسكت واسمع.
وسألته عيناي: كيف تستطيع أن تساعد روحي في البحث عن السّلام؟
عند ذاك أجابني دون أنْ أعرف إن كانت أذناي قد سمعت صوته أو أنّنا قد تواصلنا من غير نطق، لكنّه قال لي: أرى في نفسك وأتصوّر الّذي تحبّه أكثر من غيره في هذه الدّنيا.
 فظهرت فوراً صورة زوجتي وأطفالي في عقلي، لكنّني طردت صورهم قبل أن تستقرّ في نفسي، ثمّ هتفت: لا تساعدني لأنّك تزيد ألمي وأشواقي لأسرتي!
ما أجابني بل سأل: لم شوقك ألم؟ ألا تحبّك زوجتك وأطفالك؟
قلت دون تردّد: يحبّونني!
تابع الحمار: لماذا تخاف أن تفكّر بأسرتك إذن؟ يجب أن تتأمّلهم جميعاً في فؤادك وأن تسعدك صورهم لا أن تشقيك. لماذا تضرب قلبك بشوقك؟
 فكّرت فترةً في هذا السّؤال، ثمّ قلت له: لا تكفيني صورهم في الخيال، أرغب في لمسهم.
أجاب الحمار بهدوءٍ: أفهمك. تريد أن تتأكّد من امتلاك أسرتك كتاجر الجواهر الّذي يربّت على عقده الأثمن قبل الخروج من دكّانه كلّ ليلةٍ.
غضبت من هذه المقارنة ورددت: لست مالكاً لأسرتي!
فابتسم الحمار: فعلاً؟ لكنّك لم تنطق بكلمة أسرةٍ دون ياء الملكيّة. ما معنى ذلك برأيك؟
لم يكن عندي ما أجيبه به فسألته بدلاً من ذلك: أتظنّ أيضاً أنّ الحنان أو الجنس شكل من أشكال الملك؟
أجابني على طريقتي بسؤالٍ جديدٍ: كم مرّةً في السّنةٍ تنام مع زوجتك؟
فصرخت غاضباً: هذا لا يهمّك!
فضحك الحمار، ثمّ قال: أحبّ حمارتي حبّاً شديداً، لكنّنا لا نمارس الجنس سوى مرّةٍ واحدة كل سنة.
 أُغريت أن أقول: أنت حيوان! لكنّني صمتّ وسألت نفسي: لماذا تغضبني كلماته؟ هل خفت الحقيقة فيها؟ لكن لا! حبّي لأسرتي ليس شعور ملكيّةٍ أبداً! إذا كان الحبّ شعور ملكيّةٍ فإنّ شوقي لهم طمعٌ. لكن ما دام قوله صحيحاً.. لماذا أغضب؟
 في هذه اللحظة قاطع الحمار تأمّلاتي وسأل: ما لون جلدي؟
مع أنّني ما فهمت سؤاله أجبت بسرعةٍ: رماديّ.
فقال: لا. أنظره جيّداً، ومن فضلك تفحّصه بأصابعك.
وتمتم النّسيم: أنظر ... تفحّص ...
تعجبت من كلامهما لكنّني وقفت لأتأمّل جلده. لمسته بأصابعي واستحسنت طراوته. وتمعّنت به حتّى تعرّفت على أكثر من لونٍ فيه. وجدت في جلده الرماديّ الفاتح والرماديّ الغامق.
ثمّ قال: اقترب أكثر!
فاقتربت ورأيت في جلده ألواناً مختلفةً، الغالب عليها هو الرّماديّ، لكنّ فيها الأبيض والأسود وحتّى البنّيّ. ثمّ قال الحمار: لا يوجد لون خالص. فالرّماديّ تخلقه ألوان شتّى لكنّنا لا نرى في الخارج إلاّه.
قلت له قلقاً: صحيح. لكن كيف يساعدني العلم بالألوان المختلفة الّتي يتضمّنها الرّماديّ مثلاً في الشّوق إلى الأسرة؟
فأجابني: بالعلم. وعندما لاحظ عدم فهمي استمرّ: عندما تمكث في بيتك دون أن تعمل شيئاً تشعر بالجوع، وأحيانا تتوق إلى الطّعام حتّى بعد أن تأكل وتشبع، أليس كذلك؟ إنّ جسدك لا يريد أكلاً أو شرباً في الحقيقة. لكنّك ستأكل أو ستشرب دون العلم أنّ رغبتك فكرة في عقلك لا حاجة لجسدك. وربّما تعرف حال عقلك وتقول لنفسك إنّه شعور خياليّ وسيختفي.
ترك كلامه انطباعاً مؤثراً في عقلي وقلبي وفكّرت به مليّاً. ثمّ عرضت عليه التّمشّي معي حتّى القمّة المواجهة ذات المنظر الخلاّب. تجوّلنا فترة، وعندما تسلّقنا المنحدر سبقته قليلاً، لأنّه ظلّ يخبّ في مشيته الحماريّة الّتي تبحث عن الطّريق الأسهل لبلوغ القمّة. لكنّني لم أنتظره، بقيت سادراً في طريقي، فقد فكّرت أن لا رغبة لي بالكلام على أيّ حال، ثمّ إنّني لا بدّ أن أراه حين نصل القمّة. وصلت القمّة قبله مبلّلاً بعرقي، وسحرني المنظر الفاتن، حتّى وقف جانبي بهدوءٍ كأنما لم يكن قد تسلّق أبداً.
فقلت له: ليت لي قوّتك.
فأجاب ضاحكاً: ليست قوّةً بل طريقة اختيارٍ.
سألته بدهشة: كيف ذلك؟
 فقال: سلكتَ أنت السّبيل المباشر، وهذا يعني أنّك تختار الأسود أو الأبيض، فوصلت بسرعةٍ مبلّلاً بالعرق، لكنّك فقدت قوّتك. ولو أردت تسلّق القمّة القادمة ما قدرت, أمّا أنا فاخترت سبيلاً متعرّجاً حافظت خلاله على قوّتي حتّى أنّني استطيع أن أصل القمّة الأعلى دون عناءٍ. كان سبيلي طريق الحُمُر، الطّريق الرّماديّة.
تأمّلت مليّاً فكرته ورأيت الحقيقة فيها. كمْ أقرّر سلوك الطّريق المباشر؛ أعمل بمساعدة الحاسوب أو الآلات الأخرى، وغالباً ما أسافر بالسّيارة، وعندما أصل هدفي أستخدم الوقت المكتسب في عملٍ جديدٍ، يعني أنّني أصل قمم حياتي كلّها دون أن أستمتع بالجمال، فشعرت بالأسى على ضياع حياتي في العمل المتواصل.
 ثمّ نطق الحمار بآخر كلماته حيث سأل: وماذا عن جمال الطريق؟
هكذا تكلّم الحمار فتركني مغرقاً في أفكاري.
قبيل مغيب الشّمس بدأت نزولي. كانت بي خفّةٌ، بينما كانت روحي حرّةً. ودون أن أفكّر اخترت الطّريق المباشر. أصبحت خطواتي أسرع وأسرع، وأخيراً سقطت وتدحرجت على المنحدر. عندما وقفت من سقوطي جلست على العشب ضاحكاً. ويبدو أنّ الحمار ضحك معي عليّ، أو هو سأل، وربّما سألت نفسي: أرأيت حماراً يرتكب الغلطة نفسها مرّتين؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق